“ثقافة الاغتصاب”.. كاتم صوت الضحايا في المغرب
“آش كنتي لابسة”، “آش كنتي كاديري فهداك الوقت؟”، “نتي لي مشيتي معه للدار”، هي كلها اتهامات وأحكام تصطدم بها الكثير من النساء المغربيات ضحايا العنف الجنسي في كل مرة يردن فيها التحدث أو التبليغ، في تطبيع صارخ مع ثقافة الاغتصاب وتبريره.
أمينة (اسم مستعار)، 27 سنة من مدينة الصخيرات، تعرّضت للاغتصاب قبل 4 سنوات من شاب تجهل هويته، باغتها على بُعد أمتار قليلة من منزلها واقتادها نحو منطقة خلاء مجاورة لمدينتها الصغيرة.
تقول محدثتنا إنها تعتبر نفسها “محظوظة” لأن مغتصبها لم يقم بالإيلاج الكامل، وبالتالي لم تكن مضطرة للتبليغ عنه و”فضح نفسها” بمعنى أن تُعرّض نفسها للانتقادات واللوم، وحتى التشكيك في قصتها من طرف الأسرة والمجتمع، على حد تعبيرها.
تقول لنا أمينة: “لم أستطع إخبار زوجي بما حدث. عدت إلى المنزل، اغتسلت وتظاهرت بالتعب حتى لا ينكشف أمري، لم أستطع البكاء أو الصراخ”.
“بالنسبة للقانون المغربي، الاغتصاب يعني الإيلاج، وهو ما يحتاج إلى خبرة طبية يُنصح بإجرائها والإبلاغ عنها في أقرب الآجال”، بهذه العبارة أجابتنا الفاعلة الجمعوية سعاد بنمسعود، عندما سألنا عما يقوله المشرّع المغربي في مثل حالة أمينة.
نصحتنا محدثتنا التي قضت سنوات طويلة في مجال تقديم الاستشارة والاستماع للضحايا، بالتبليغ فورا عن حوادث الاعتداء الجنسي وطلب المساعدة من الجمعيات المختصة، وكسر حاجز الصمت مهما كانت ظروف وحيثيات الجريمة.
رفضت أمينة تقديم شكاية إلى السلطات الأمنية خوفا من “نبذ أسرتها المحافظة وبسبب شعورها بالعار” على حدّ تعبيرها، فاستمرت معاناتها لأشهر طويلة قبل أن تكسر حاجز الصمت وتتوجه إلى مركز للاستماع إلى ضحايا العنف من أجل البوح و”الفضفضة فقط” في سريّة تامة.
في المغرب، تنتشر مراكز الاستماع والإرشاد والتكفل بالنساء ضحايا العنف في مختلف جهاته. منذ سنوات خلت، أصبح بإمكان النساء المعنّفات التوجه إلى 88 خلية للتكفل بالنساء والأطفال في مختلف المحاكم الابتدائية والاستئناف على الصعيد الوطني، توفر لهن الحماية وتيّسر ولوجهن للقضاء، كما تقدّم لهن الخدمات الصحية والإدارية بشكل مجاني. هناك أيضا مساعدات ومساعدون اجتماعيون في مراكز الاستماع للنساء والأطفال ضحايا العنف بمختلف المستشفيات والمراكز الصحية.
إلى جانب هذه المراكز الحكومية، توجد المئات من المراكز التابعة لجمعيات المجتمع المدني التي تحرص على تقديم خدمات الإنصات والمشورة للضحايا، ومساعدتهن على المستوى القانوني والنفسي، منذ سنوات التسعينات. تعمل هذه المراكز أيضا على إرشاد الضحايا نحو الأخصائيين النفسيين والقانونيين، بالإضافة إلى توفير بعضها لخدمة الإيواء، والتي لا تعني المبيت فقط، بل توفير السكن والمأكل والمشرب والدواء ورعاية أطفال الضحايا.
وتشير تقديرات منظمة الصحة العالمية إلى أن واحدة من كل 3 نساء في العالم، تتعرض في حياتها للعنف البدني و/ أو العنف الجنسي. كما أن ثلث النساء تقريبا بنسبة 27 في المئة، ممن تتراوح أعمارهن بين 15 و49 سنة من المرتبطات بعلاقة جنسية، أفدن بتعرضهن لشكل معين من أشكال العنف البدني و/ أو الجنسي على يد الشريك.
هل تثبط القوانين رغبة النساء في البوح والتبليغ؟
أمينة ليست استثناء في الحالة المغربية، فخمسة إلى عشرة بالمئة فقط من النساء ضحايا العنف في المغرب، يتقدمن بشكايات لدى المحاكم، بحسب تصريح وزير العدل، عبد اللطيف وهبي خلال جلسة سابقة للأسئلة الشفوية بمجلس النواب في نونبر الماضي. حيث أكد أن أغلب ضحايا العنف من النساء في المغرب يفضلن إخفاء ما تعرضن له.
وفي أحدث إصدار له، سجّل التقرير السنوي لرئاسة النيابة العامة، أن عدد قضايا العنف ضد النساء ارتفع إلى 23879 قضية خلال سنة 2021، أي بزيادة 31 في المائة مقارنة مع السنة التي قبلها، منها 892 قضية اغتصاب، و467 قضية تتعلق بهتك العرض بالعنف.
وتصف عضوة اتحاد العمل النسائي، رجاء العلوي، هذه المعطيات “بالإيجابية”، لأنها تظهر أن النساء “أصبحن أكثر إقبالا على فضح المحظور المجتمعي المسكوت عنه، لكنها لا تعكس أبدا واقعنا الذي يعج بضحايا كثيرات يعانين في صمت ويخشين الشوهة”، بحسب قولها.
ترى العلوي بأن النساء في المغرب “يصطدمن بعوائق اجتماعية واقتصادية ونفسية وثقافية تمنعهن من فضح العنف بشكل كبير، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالجرائم ذات الطابع الجنسي. حيث تتحمّل الضحية وحدها ضغطا نفسيا رهيبا خوفا من المجتمع والأحكام الجاهزة”.
بالعودة إلى الجانب القانوني، يُعرّف الفصل 486 من القانون الجنائي المغربي، الاغتصاب بأنه “مواقعة رجل لامرأة بدون رضاها” ويعاقب عليه بالسجن من 5 إلى 10 سنوات. أما إذا كان عمر الضحية أقل من 18 سنة أو كانت عاجزة أو معاقة أو معروفة بضعف في قواها العقلية أو حاملا، فيُعاقب الجاني بالسجن من 10 إلى 20 سنة.
في المقابل، ينص الفصل 490 على أن “كل علاقة جنسية بين رجل وامرأة لا تربط بينهما علاقة الزوجية تكون جريمة الفساد، ويعاقبان عليها بالحبس من شهر واحد إلى سنة”.
وفي تعليقها على هذه النصوص القانونية، تؤكد المحامية سعاد بطل، أن القانون المغربي يحصر الاغتصاب بحدوث الإيلاج، وتردف: “يصعب إثبات الاغتصاب دون إيلاج من خلال الخبرة الطبية، وهو ما قد يساعد أحيانا في إفلات الجناة من خلال الادعاء بأن العلاقة كانت رضائية، ولو في حالات قليلة، وبالتالي قد تتحوّل القضية من جناية الاغتصاب إلى جنحة الفساد التي يُعاقب فيها الطرفان ببضعة أشهر”.
وتعترف المحامية في هيئة الرباط، بأن مسألة الاثبات في قضايا الاغتصاب والتحرش والعنف بشتى أنواعه، تعد من أعقد الإشكاليات التي تطرح على أرض الواقع بالرغم من وجود ترسانة قانونية تشمل عقوبات ثقيلة على المعنفين والمغتصبين.
وتضيف: “للأسف، تتخوف الضحية من أي معيقات تحول دون إثبات ضررها وإنصافها فتتراجع عن حقها في التبليغ، كخوفها من الاثبات، من استقبال السلطات الأمنية، من الأحكام، وأيضا من أن تتحوّل من ضحية إلى جانية”.
تتفق بنمسعود مع كلام المحامية بطل، وتؤكد أن عدم اعتراف القانون بالرضائية يزيد الوضع تعقيدا، وبالتالي تتخوف الضحية الراشدة من أن تلقى معاملة أخرى، وسيصعب عليها التبليغ.
الجهل بالقوانين يساهم بإسكات الضحايا
لماذا لم تبلغي؟ تردّ الناجية أمينة قائلة: “مابغيتش نجبد المشاكل. أجبرني مغتصبي على ممارسة الجنس بشكل سطحي تجمّدت الدماء في عروقي وكنت خاضعة، كما لا تبدو عليّ آثار الضرب أو الاغتصاب العنيف”.
ورغم كل المخاوف والمعيقات التي ذكرناها، إلا أن المحامية سعاد بطل، المتخصصة في قضايا العنف والتمييز ضد النساء، تشجع على التبليغ عند حدوث أي اعتداء جنسي، وتوضح: “مهما كان نوع الاعتداء الجنسي، توجد عدة نصوص قانونية يتم تطبيقها حسب الحالة، حيث أن الفصل 485 مثلا، يعاقب بالسجن من 5 إلى 10 سنوات كل من هتك أو حاول هتك عرض أي شخص ذكرا كان أو أنثى مع استعمال العنف، وتزداد العقوبة في بعض الحالات، كأن تكون الضحية قاصر أو تعاني من إعاقة ما”.
وتؤكد الخبيرة القانونية أنه سواء بحدوث الإيلاج أو عدمه، فإن السلطات تتعامل مع كل ملف على حدة، وتعمل على تكييف الوقائع والأفعال وفق ما هو منصوص عليه في القانون الجنائي، “كما أنه خلال مرحلة التحقيق، تقوم الشرطة بتحرياتها من أجل التأكد من تفاصيل الشكاية وتضمين الملف بإثباتات أخرى غير الخبرة الطبية”، حسب قولها.
من جهتها، تقول بنمسعود بناء على خبرتها في استقبال ضحايا الاعتداءات الجنسية، إن الضحايا القاصرات يحضرن دائما رفقة أسرهن من أجل مباشرة المتابعة القضائية وأخذ حقهن من الجاني لأن القانون يقف في صفهن، مهما كانت ظروف الاعتداء. أما الراشدات، فيبحثن عن آذان صاغية والاستفسار عن المساطر التي يمكن سلكها إذا ما قرّرن متابعة الجاني، لكن الرغبة في التبليغ تصبح أقوى لديهن عندما ينتج عن الاعتداء حمل، من أجل إثبات نسب الطفل.
تعاطف القضاة مع الجناة
على الرغم من العقوبات الثقيلة التي يتضمنها القانون الجنائي بخصوص حالات الاغتصاب والاعتداء الجنسي، والتي قد تصل إلى 30 سنة، إلا أن الحقوقيتين بنمسعود والعلوي تتفقان في أن عدم تطبيق هذه النصوص القانونية بشكل كافٍ ورادع يعود لـ”السلطة التقديرية للقضاة”.
في لقاءاتنا معهما بشكل منفصل، طالبت الناشطتان الجمعويتان، كل باسم منظمتها، بـ”تقييد السلطة التقديرية للقضاة حتى لا تتكرر مسألة تمتيع الجناة بـ”ظروف التخفيف”، ولإصدار أحكام رادعة تقطع مع “ثقافة التطبيع والاغتصاب والوصمة المجتمعية”.
هذه المطالب تجعلنا نستحضر قضية اغتصاب الطفلة سناء (11 سنة) في مدينة تيفلت، التي اغتصبت بشكل متكرر من طرف 3 أشخاص، نتج عنه حمل ووضع طفل يبلغ من العمر سنة واحدة الآن.
بالرغم من كل هذه المعطيات، قرر القضاء إدانة مغتصبي سناء بسنتين سجنا ابتدائيا، ستة أشهر منها موقوفة التنفيذ، وهي مدة تقل بكثير عن الحد الأدنى لعقوبة الاغتصاب في القانون المغربي، ذلك أن القاضي فضّل تمتيعهم بظروف التخفيف بدل تشديدها بسبب الظروف الاجتماعية الهشة لهؤلاء. العقوبة سترتفع بعد ذلك في الحكم الاستئنافي إلى عشرين سنة بالنسبة للمتهم الأول وعشر سنوات للمتهمين الآخرين بعد تحول قصة “سناء” إلى قضية رأي عام.
فلماذا تتعاطف المجتمعات في المغرب مع المغتصبين؟
أخبرتنا أمينة أن الجهر بواقعة اغتصابها كان سيُدخلها في مشاكل لا حصر لها، مع زوجها وأسرتها والمجتمع “الذين سيحملونها كامل المسؤولية في وقوع ذلك لها”.
حالة أمينة هي مجرّد نموذج مصغّر لما تعيشه الآلاف من النساء المعنّفات والمغتصبات اللواتي يعشن في ذعر مستمر ويفضلن الصمت خوفا من تحميلهن المسؤولية مقابل التسامح مع المغتصبين، الذين يجد لهم المجتمع أعذارا وهو ما يظهر جليا في عدة أمثلة وعبارات شعبية متداولة كـ”دابا يهديه الله”، “يتزوج ويدير عقلو”، “الرجال هوما الرجال”، أو “ما يعيب الراجل غير جيبو”.
يفسرّ الاخصائي النفسي الاكلنيكي والمعالج النفسي، فيصل طهاري، “أن مسألة التعاطف مع المغتصبين تنتشر أساسا في المجتمعات التي يغلب عليها الفكر الذكوري، فهي تلوم الأنثى دائما على اعتبار أنها هي من عرّضت نفسها للاغتصاب أو العنف من خلال أفعالها أو كلامها أو لباسها”.
ويضيف: “هناك أفكار ومعتقدات منتشرة داخل المجتمع تدفع في اتجاه شيطنة المرأة، على اعتبار أنهنّ من يتسببن في إثارة وتهييج الرجال جنسيا، وبالتالي فإن لكل فعل ردة فعل، والتحرش بهن أو اغتصابهن هو نتيجة حتمية لأفعالهن”.
ويشدّد الدكتور فيصل طهاري على أن مسألة التضامن مع المعنّفين وتبرير أعمالهم أمر “خطير جدا”، قد يدفع ضحايا آخرين للصمت والخضوع، خوفا من الرفض والتنمر والإدانة. ويضيف: “تحامل المجتمع في الواقع أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي، يجعل الضحية تشعر بالإحباط وبضغوط نفسية كبيرة قد تقودها لتبني أفكار انتحارية”.