سلطانة

عائشة الشنا…المرأة التي وهبت عمرها لنصرة الأمهات العازبات

تأهبت يوم أمس للذي لابد منه، لكنها لم تترجل عن صهوة الحياة حتى أماطت اللثام عن نساء جار عليهن القدر، قصتها قصة مثقلة بالتفاصيل وحبلى بحكايات النضال.

بصمودها قطعت لوحدها أشواطا لا يقوى عليها الكثيرون، وهبت عمرها لترسم في وطنها خرائط جديدة للحريات، ومستقبلا واعدا للأمهات العازبات وأطفالهن، يلقبها المغاربة ب “ماما عيشة” لأن حضنها يتسع للجميع، إنها عائشة الشنا.

بدأ نضال عائشة الشنا حينما جعلها القدر شاهدة على لحظة إنسانية، لأم خانها الحب وقسى عليها الزمان، حتى أجبرت على التخلي عن جزء منها لصالح جمعية خيرية، فكان حديثها الصمت، ولسانها دموع حارقة بلهيب الفراق، هذه اللحظة التي تعتصر لها القلوب حزنا، شكلت منعطفا مهما في حياة عائشة الشنا.

بعد هذه الواقعة، أسست عائشة الشنا “جمعية التضامن النسوي”، سنة 1985، التي تهتم “بالنساء المتخلى عنهم أو في وضعية صعبة”، أو “ضحايا المجتمع والقانون” كما كانت تحب مناداتهن احتراما لإنسانيتهن، وتقدم الجمعية مساعدات قانونية، واجتماعية، ومادية ونفسية للأمهات العازبات، وتمنحهن الثقة لبناء أنفسهن وأبنائهن من جديد داخل المجتمع.

وساهم تأسيس هذه الجمعية في كشف المستور ونقل قتامته إلى الواجهة، من خلال قصص الاغتصاب، والاستغلال الجنسي وزنا المحارم، وغيرها من الوقائع التي كانت ترويها نزيلات الجمعية، خاصة في وقت كان فيه التطرق لمواضيع كهذه أمرا محظورا في بلد محافظ كالمغرب.

وتمكنت الجمعية سنة 2005، من جعل الآباء يعترفون بأبنائهم قانونيا، حيث اعترف 68 أب بأطفالهم، 17 منهم فضلوا الاعتراف والزواج، في حين أقر 51 منهم بالبنوة فقط.

وشكلت الشنا نموذجا للمرأة المتشبثة بقيمها الدينية والمجتمعية المحافظة، لكن بعقل علماني وفكر حديث معاصر، حيث كانت مؤمنة بأهمية التماسك الأسري، لكنها ضد العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج، وكانت أيضا شديدة الحرص على عدم اختلاط الأنساب، لذلك كانت تصر على أن يتعرف الإبن على أبيه البيولوجي.

وبالعودة لطفولتها ومسارها الدراسي، ولدت عائشة الشنا يوم 14 غشت من سنة 1941، بمدينة الدار البيضاء، توفي والدها وهي في الثالثة من عمرها، فتزوجت والدتها للمرة الثانية، وأعادتها إلى الدار البيضاء لتعيش مع عمتها وتدرس في إحدى المدارس الفرنسية، وبعدها تطلقت ولحقت بها إلى هناك.

عملت الشنا سكريتيرة لبرامج أبحاث لمرضى الجذام والسل، وفي سنة 1960، تم قبولها لدراسة التمريض، وبعد تخرجها، عملت بوحدة التعليم في وزارة الصحة، وفي سنة 1970، بصمت أول عمل تلفزيوني حول التعليم الصحي.

وحصلت الشنا على مجموعة من الأوسمة والجوائز، بداية من جائزة حقوق الإنسان من قبل الجمهورية الفرنسية، سنة 1995 بباريس، كما حصلت على وسام الشرف من الملك محمد السادس، سنة 2000، وفي سنة 2002، تم تصنيف جمعية “التضامن النسوي” كمنظمة رسمية غير حكومية.

وتوجت عام 2005، بجائزة إليزابيث نوركال، نادي النساء العالمي بفرانكفورت، وفي 2009، حصلت على جائزة “أوبيس” للأعمال الإنسانية الأكثر تميزا بمينيابوليس في الولايات المتحده الامريكية، التي بلغت قيمتها مليون دولار، وحصلت كذلك سنة 2013، على رتبة فارس من وسام جوقة الشرف للجمهورية الفرنسية.

وأصدرت عائشة في سنة 1996، كتاب “ميزيرية”، كتاب تروي سطوره حكايات مؤثرة وحزينة لمن وقعوا في براثن وحشية القدر، قصصهم تتشابه فيها الحكايات، وتتغير فقط الأسماء والأمكنة.

وحقق كتاب “ميزيرية” صدى واسعا، حتى أن الراحلة فاطمة المرنيسي، أبدت إعجابها به قائلة: “أخاف عائشة الشنا لأنني وأنا أقرأ كتابها، انتبهت إلى أن انشغالي الأهم وأنا أكتب هو كيف أغوي قارئي وأنال إعجابه، فيما الشنا تكتب لتزعج وتثير الأعصاب، وتزج بنا وسط مغرب الحقائق المريعة التي لا تحتمل”.

يقال إن الموت يطفئ ما تضيئه الحياة، لكن موت “ماما عيشة” لن يطفئ أبدا الضوء الذي أنارت به عتمة واقع كان في جحر النسيان، وحتى وإن غادرت الحياة فلن تتوقف أبدا عن الحياة في قلوب المغاربة، كامرأة نثرت أريج طيبتها وكرست نضالها لتعري على واقع طال السكوت عنه، وموتها لن يكون أبدا موتا من الذاكرة.

بقلم الصحافية المتدربة أمينة مطيع

vous pourriez aussi aimer