يقال إن “تاريخ العالم ليس إلا سيرة الرجال”، لكن هذه المقولة لا تنطبق أبدا على تاريخ المغرب الذي تعج ذاكرته بنساء نقشن سيرتهن في رفوف التاريخ بحروف من ذهب، وتحدين بعض التقاليد والعادات الجائرة ثم ولجن ميادين كانت حكرا على الرجال فقط، ليخلدن بذلك قصصا عنوانها “الحنكة النسوية”.
قصة اليوم، هي قصة زهور الوطاسية، امرأة مغربية من النساء الخالدات، اللواتي سطع نجمهن في السياسة، حكمت العاصمة الروحية لما يزيد عن سنة وسط سلسلة من الصراعات السلطوية واستطاعت بوعيها السياسي إخماد رياح الفتن التي كانت تعصف بالمغرب آنذاك.
في فترة انتقالية كان يعيشها المغرب، حين ضعفت شوكة الدولة المرينية فتولى الحكم سلاطين دون سن الرشد وبقوا تحت إمرة أقربائهم من الوطاسيين، ما جعل المغرب الأقصى يشهد سلسلة من الصراعات الداخلية.
ففي سنة 1458، قرر السلطان المريني عبد الحق التخلص من أقربائه، حيث حاك لهم مكيدة وأوقع بهم في مذبحة كبيرة، ليستفرد بالحكم لوحده، لكن فرحته بالانفراد بالعرش لم تدم طويلا، حيث سرعان ما قام سكان مدينة فاس بثورة على المرينيين، وهو ما فتح الباب على مصراعية أمام دولة الوطاسيين التي امتد حكمها إلى قرابة 80 عاما.
وتشير إحدى الحكايات الرائجة حول هذه الفترة الانتقالية، والتي ما يزال صداها يتردد إلى حدود الآن، إلى أنه في عهد السلطان عبد الحق بن أبي سعيد المريني، بعد أن قام بمذبحة لأقربائه، قام بتولية يهوديين على مدينة فاس، فكانا مستبدين ومتغطرسين، حيث انحنى أحدهما بالضرب على امرأة شريفة وألهبها بالسياط فجعلت تتوسل برسول الله، فكان يزداد غضبه كلما سمع ذكر الرسول فيزيد من شدة تعذيبه لها.
وبعد هذه الواقعة “هاج الناس وماجوا”، فقاموا بخلع السلطان عبد الحق المريني من السلطة وبايعوا نقيب الأشراف بفاس أبا عبد الله محمد بن علي الإدريسي الجوطي العمراني، الذي قام بخلع عبد الحق المريني من السلطة وقاده إلى حتفه حيث ضربت عنقه وضرب معها آخر عنقود في سلالة المرينيين.
ولم تدم طويلا إمارة أبا عبد الله محمد بن علي الإدريسي الجوطي العمراني، حيث أزاحه عن كرسي العرش أبو الحجاج يوسف بن منصور الوطاسي في سنة 875 هجرية، الذي جعل مدينة فاس تحت حكم أخته زهور الوطاسية، حيث جاء في كتاب لأحمد بن خالد الناصري: “وبقيت حضرة فاس في يد أخت أبي الحجاج زهور الوطاسية مع قائده السجيري إلى أن تولى الأمر مع محمد الشيخ الوطاسي أول ملوك الوطاسيين”.
وحكمت زهور الوطاسية ابنة منصور زيان الوطاسي، مدينة فاس لنحو عام كامل، لتكون بذلك المرأة الوحيدة التي استطاعت بحكمتها وفطنتها تولي زمام أمور فاس في فترة عصيبة كان فيها المغرب في غاية الاضطراب والانتكاس، وتصلح الفتنة التي درأها الرجال، وتضمن بذلك مرور السلطة إلى دولة الوطاسيين بالرغم من ما يحاك في الكواليس.
وجاء في الصفحة 20 من الجزء الثالث من كتاب “الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى”: “وقد تقدم لنا أن الذي خلع الشريف من الملك هو أبو الحجاج يوسف بن منصور الوطاسي وأن حضرة فاس الجديد قد بقيت بعد ذهاب الشريف إلى تونس في يد زهور الوطاسية والقائد السجيري”.
واعتبر مجموعة من المؤرخين حكمها لمدينة فاس لمدة زادت على السنة دليلا على قوتها وبسالتها، في فترة أواخر الدولة المرينية وبداية عهد الدولة الوطاسية، خاصة في مرحلة شهدت اضطرابات وثورات داخلية بالإضافة إلى أطماع خارجية.
وعلى الرغم من أن التاريخ ظالم نوعا ما، بسبب شح المصادر التي تؤرخ لدور هذه المرأة العظيمة في بداية الدولة الوطاسية، وأدوار نساء أخريات، إلا أنها تبقى نموذجا للمرأة المغربية الخالدة التي تتميز برجاحة عقلها ونباهة حكمتها، ثم سيرتها العطرة التي ما زال أريجها يفوح إلى حدود الآن.
بقبم الصحافية المتدربة أمينة مطيع