ألم الإغتصاب وأمل العقاب

عاشت العديد من الأسر في ظل الأزمة الصحية الحالية العديد من الآلام، لكن هناك أشياء أخرى أشد ألما وإيلاما من الفقد والمرض كالقتل والإغتصاب مثلا. فإذا كان القتل خطفا للحياة بالغصب، فالإغتصاب نزع لطهر الجسد بانتهاك العرض وسلب للكبرياء والثقة في النفس، وهي أحاسيس لا يمكن أن تغادر روح الشخص بمرور سنوات العمر، أو بزيارة طبيب نفسي أو حتى بسجن الفاعل أو إعدامه. ولا يمكن أن يكون حامل سيف الإعتداء سوى عديم ضمير ودين وفاقد للحس الإنساني. فلا شيء يمكنه أن يجعل لحظات من الألم تنمحي من ذاكرة وقلب الضحية، حتى ولو أخد الجرم من المجرم دقائق معدودات، فلرب شهوة ساعة أورثت ذلا مهينا وهوانا طويلا.

لا شك أن أغلب الناس على علم بقضية الطفلة إكرام من إقليم طاطا التي اغتصبها رجل أربعيني، وهي قضية أثارت حنق وغضب العديد من الفاعلين الجمعويين والنشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي وحتى المحامين، خاصة بعد قرار متابعة المتهم في حالة سراح. لكن ما زاد الأمر سوءا هو تنازل والدها لفائدة المتهم بذريعة الخوف من العنف والتهديد.
وإذا كان التنازل في قضية الاغتصاب ثغرة قانونية تحول دون نيل المتهم العقاب الذي يستحقه، فإن تنازل الوالدين في مثل هذه الحالة يمكن اعتباره تخليا وتنكرا لحقوق أطفالهم، حتى ولو وضعنا في عين الاعتبار ثقافتنا ونظرة المجتمع والخوف من الفضيحة، لكن رغم كل هذا لا يجب إتخاذ ذلك ذريعة للتنازل، على اعتبار أن بضع سنوات من السجن لا تكفي لمحو أثر الفعل على الضحية.
ولمعرفة الوقع الحقيقي للإغتصاب على الأطفال خاصة، سنبحر في عمق مليء بالمرارة والقسوة والألم مع الكاتبة توني ماغواير البريطانية في سيرتها الذاتية ” لا تخبري ماما”. عنوان الرواية يوحي بالمنع والتحذير من قول شيء للأم، مما يعني أنه فعل خاطئ. لكن ما مدى جسامة هذا الخطأ؟
تتحدث الرواية عن عائلة من أب وأم وطفلة صغيرة، بعد أن عاد الأب من مشاركته في الحرب العالمية الثانية. نعمت الطفلة انطوانيت بطفولة هانئة في بيتها الريفي الصغير، بين المدرسة وقطف الأزهار من حديقتها واللعب مع كلبتها على اعتبار أنها صديقتها الوحيدة ومؤنستها وهكذا استمرت حياتها تحت رعاية والديها وحب كل سكان البلدة.
لكن بعد انتقال العائلة الصغيرة إلى ايرلندا الشمالية، ومع بقاء الأب في البيت بدون عمل ولا شغل، انقلبت حياة انطوانيت بسبب غضب والدها الدائم منها حتى لأتفه الأسباب، ولكنه في كل مرة يحاول أن يراضيها ويعطف عليها، لكن هذا التغير المستمر في تصرفات والدها بين غضب وحب، بدأ يثير شكوكها نحو تصرفاته.
بعد بلوغ انطوانيت سن السادسة بدأ والدها يتردد على غرفتها بشكل مستمر، لتبدأ سنوات المعاناة بسبب الإعتداء الجنسي المتكرر الذي تعرضت له من طرف والدها لسنوات عدة. هنا يطرح القارئ سؤال حول الأم وردة فعلها؟


أمرت انطوانيت بالتستر على ما تتعرض له من طرف والدها، فكان يقول لها ” هذا سر لا تخبري ماما” أو ” هذه لعبة بيننا لا تخبري ماما”، ولا يتزحزح قبل أن يأخذ جوابا بالموافقة وأن يرى علامة الخنوع على وجه طفلته. لكنها أخبرت والدتها بعد صراع مع نفسها المرعوبة وخوف طويلين من والدها، لتصدم بأن والدتها تأمرها هي الأخرى بعدم البوح بذلك لأي شخص آخر، وذلك لأنها كانت مغرمة بأبيها وخوفا من الفضيحة أيضا. وتقول توني ماغواير في روايتها :” كنت أثق في حب أمي لي .. ستطلب منه أن يتوقف لكنها لم تفعل”، بل طلبت منها أن تذهب إلى ملجإ لتفادي الفضيحة.
الشاهد من القصة أن أصابع الإتهام اتجهت إلى الضحية وليس إلى المجرم، إلى أنطوانيت بدل أبيها الغادر ولم تجد انطوانيت عزاء سوى في نصيحة القاضي لها:” أنطوانيت، ستكتشفين أن الحياة ليست عادلة، فالناس سيلومونك ، فاستمعي إلي جيدا : لقد اطلعت على تقارير الشرطة والتقارير الطبية، واعرف ما مررت به بالضبط. وأؤكد لك أن أيا من هذا لم يكن خطأك”.
عانت انطوانيت آلاما جسدية ونفسية كثيرة، وعانت نبذا اجتماعيا كبيرا، طردت من المدرسة ومن نظرة ابتذال واحتقار في جميع المرافق التي تدخل إليها، ولم تستطع أبدا التخلص من أثر تلك الويلات التي ألمت بها طيلة حياتها، بالرغم من أنها كبرت وأصبحت امرأة ناجحة وجعلت لنفسها إسم توني عوض انطوانيت، كمحاولة للفرار من اسم ظل يتردد على في والد مجرم وأم متخاذلة، لكن شبح انطوانيت ظل يعاودها ويراودها في كل مرة، في النوم في الصمت وحتى قبل الموت.
وكذلك الأمر في كل مرة يتكرر فيها هذا الفعل. فلا الأثر ينمحي ولا المجرم يلقى عقابا رادعا ولا القانون يسري كما ينبغي. ولا المجتمع يهنأ بأفراده المتعايشين بسلام. ويعيد التاريخ نفسه وأحداثه فلا تكاد تندمل الجراح حتى يرش الغاصبون على الندب الأملاح.

كتبته: فاطمة الزهراء القاسمي صحافية متدربة

Comments (0)
Add Comment