لا شك أن التطور التكنولوجي و التقدم الرقمي له ميزاته و حسناته على حياة الأفراد داخل المجتمع، نعم إنه عصر السرعة و الرقمنة و عصر العالم الافتراضي.
إلا أن الواقع يلاحق الافتراض عندما تكون واقعة ما تكتسي طابع الجناية أو الجنحة، ملموسة كانت أو افتراضية، فتبدأ المحاكمة لترجع الفاعل إلى الواقع باعتقال و وضع تحت تدابير الحراسة النظرية ثم متابعة فإيداع بالسجن، و هي أمور ليست افتراضية، بل حقيقة ملموسة واقعية لا يدركها جيدا إلا المعني بالأمر و ذووه، أكثر من باقي المتدخلين في الإجراءات المذكورة سلفا، و التي تبقى بالنسبة لهم مجرد ملف أو رقم تسلسلي لشكاية أو محضر.
فالأمر حقيقة مرتبط بحرية فرد من المجتمع، الأصل فيه البراءة إلى أن يثبت العكس.
لماذا هذا الكلام اليوم؟ هو تذكير بالبديهيات بالنسبة لرجال و نساء القانون و كذا من الواضحات بالنسبة لحقوقيي هذا الوطن، لأن أي مس بالمحاكمة و ظروف إجراءها لا يجب أن ينظر إليه من زاوية النجاعة و المردودية و التباهي و التسابق إلى الرقمنة قبل غيرنا من الدول المتقدمة أو النامية، و خير دليل على ذلك، هو أن جميع الدول المتقدمة و بما لها من قدرات تكنولوجية عالية الدقة و التمكن، لم تلجأ قط إلى محاكمة معتقليها عن بعد، رغم المخاطر التي- في بعض الأحيان- يعرفها نقل المعتقلين شديدي الخطورة من المؤسسات السجنية إلى المحاكم، باعتبار انتمائهم لمنظمات إرهابية أو لعصابات الجريمة المنظمة العابرة للقارات، إذ من شأن عملية نقلهم أن تعرف اختطافا أو هروبا أو محاولة اغتيال، و رغم ذلك تسخر تلك الدول ميزانيات ضخمة و تخلق أجهزة أمن متخصصة في نقل المعتقلين – على سبيل المثال لا الحصر فريق التدخل و الحماية بفرنسا و المعروف اختصارا بERIS- و هي كلها مجهودات لتأمين نقل السجناء إلى محاكماتهم ليكونوا أمام الهيئة القضائية أو هيئة المحلفين التي ستنظر في ملفاتهم و لم يتم اللجوء إلى محاكمتهم عن بعد، رغم ما لذلك من إدخار للوقت و الجهد و الأموال و حفظ للأرواح، إيماناً من تلك الدول بأن محاكمة الأفراد لا يجب أن تتم بوسائط كيفما كانت الإكراهات.
فالأمر يتعلق بإنسان يحاكم و ربما بمأساة أسرية وراءه، و “ليس من وصل إلى القمر قبل الآخر”.
فهل ستكون الشاشة وفية بما فيه الكفاية بما تظهره عن المتهم؟ و هل نبرة صوته و شخصيته يضمنها المكرفون الموضوع أمامه.
و هل يمكن للزنزانة الباردة أن تعوض دفء قاعة المحكمة و هي تعج بالجمهور و حركة البذل السوداء التي تحف المتهم و تضمن له طمأنينة، و لو نسبية، فيما يدلي به من تصريحات ستعتبر إقرارات قضائية تلزمه و تؤثر لا محالة على مركزه القانوني.
فكيف للقاضي أو تلك الهيئة الجماعية أن يُكَوِّنوا ذلك الإقتناع الوجداني الصميم الذي تحدث عنه المشرع الجنائي و جعله في مركز الأسباب الصانعة للحكم القضائي، في غياب ذاك التفاعل الإنساني المنتج للقناعة و الذي يتمخض حتما عن التواصل المباشر بين هيئة الحكم و المتهم.
هل برودة الكاميرات و الشاشات يمكنها تعويض الإنسان و ما هيته؟
كلها أسئلة يطرحها الواقع و ليس الإفتراض.
و أنا أفترض أنه قد فات الأوان لأن التسابق حول السبق الرقمي يغلب على النقاش الفلسفي الهادىء، هل سنرى يوما محاكمة رقمية بذكاء اصطناعي و سنقول عوض سيدي الرئيس، السيد الحاسوب المحترم.
لا يمكننا أن نكون ضد التطور و أن نستغل التكنولوجيا و نسخرها خدمة للبشرية و في الميدان القضائي خصوصا، ففي ذلك حقا إيجابيات لا تعد و لا تحصى، في السرعة و السلاسة الإجرائية و في إصدار الأحكام و تشجيع المقاولات بالرفع من منسوب الثقة لديها في القضاء…إلخ
لكن هذا التطور نراه صالحا و سهل التنزيل في مواد تتعلق بالإستثمار و القضايا المادية الصرفة مدنية كانت أو تجارية أو إدارية، أما ما تعلق بالإنسان و أفعاله الشخصية التي يساءل عنها في حريته و وجوده أصلا (حكم بالمؤبد أو الإعدام ) كذا بالنسبة للمآسي الاجتماعية من جرائم العرض و الأحداث… و ما شابه، فلا يمكن اختزالها في مجرد مناقشة عن بعد وراء شاشة إلكترونية ستحسم الأمر بين الجاني و المجني عليه و مطرقة الحكم القضائي.
و كان المتهم آخر من تكلم.
ذ/ محمد أمين جلال
محام بهيئة الدارالبيضاء
نائب رئيس جمعية المحامين الشباب